البابا فرنسيس ولبنان: راهنيّة الشرّ وتاريخيّة القيامة!

كتب زياد الصّائغ في Beirutinsights:

رسالة البابا فرنسيس إلى رئيس الجمهوريّة وحلفائه عميقة الجذور في لاهوت الحقيقة حيث النور أقوى من الظلمة، مهما ادلهمّت هذه الأخيرة. في تقدير العارفين أنَّ أحداً في ذاك الحيِّز الجامد لم يقرأ حتى الساعة خطورة ما انطوت عليه الرسالة من إدانة قويّة للأداء السياسي ، وقناعةٍ أكيدة باندحارٍ للموت – الشرّ أمام الخير – القيامة.

هنا تكمُن المعادلة الصعبة حيث المواجهة كيانيّة بين رُكنيها. الرُّكن الأول مستنقعٌ في قدرةٍ على الإيذاء الكثيف، لكنه يحمِل جذور تفكّكه بذاته. أمّا الرُكن الثاني فثابتٌ في النضال من أجل كرامة الإنسان وسلام المجتمع وعدالةٍ عادلة. إنها رسالة النّبرة الأعلى في ديبلوماسيّة الفاتيكان إلى من يعتبر ذاته، وهلَّل له كثيرون، أنّه أحد “آباء حماية المسيحيّين اللبنانيّين والمشرقيّين”. هكذا قال لي يوماً رجل دينٍ فاعِل في حضرة رجال دين مسلمين، وبالصوت العالي.

الكُلّ صفّقوا لهذا الإعلان. آليتُ على نفسي الردّ حينها بعباراتٍ مقتضبة قبل خروجي من اللقاء، وكان في نهايته، أجبت:”الحقيقة لا تُخفى ولو تمَّ خطفها مرحليّاً”.

ورسالة البابا فرنسيس ضاربة الجذور لاهوتيّاً وجيو-سياسيّاً. لاهوتيّاً من باب الالتزام الإيماني بتعميم الرّجاء بانتصار الخير، مع موجِب الثبات في بنائه.وجيو-سياسيّاً في انطلاقةٍ نحو الحثّ على “قوة الارتداد من أجل بناء عالمٍ أفضل”، وليس لبنان أفضل حصراً، وفي هذا الحثّ المتوازي مع الدُّعاء إلى الله ليلهِم “الرئيس ومعاونيه الحِكمة…”،مؤشّرٌ دقيقٌ على أنَّ هويّة لبنان الرسالة في العيش الواحِد، والنموذج في التنوّع، والرّائد في تصدير الأبجديّة، وواحة الحريّات، والمساهِم بنيويّاً في صَوغ الشُرعة العالميّة لـ”حقوق الإنسان”، والعضو المؤسِّس في الأمم المتّحدة وجامعة الدول العربيّة، وحاضِنُ “المبادرة العربيّة للسّلام” (2002)، ومركز “أكاديميّة الإنسان للتلاقي والحوار” (2019)، مؤشِّرٌ دقيقٌ على أنَّ هذه الهويّة تتعرّض لهجمةٍ شرِسة ممَّن قدّموا ذاتهم على أنّهم حُماتها، ليس على الصّعيد الوطنيّ فقط، بل على الصعيدَين الإقليميّ والدوليّ أيضاً. في ما سبق إدانة قويّة أيضاً للخيارات التي تنحر مقوّمات هذه الهُويّة.

ورسالة البابا فرنسيس، بقدر الزجريّة النّاهِرة التي حملتها في ثنايا سطورها النّبويّة، بالقدر عينه أصرَّت على بث حقيقةٍ عبّر عنها أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين إلى لبنان في أيلول الفائت، وعِقب تفجير مرفأ بيروت، إذ كرَّر دون هوادة: “لستم وحدكم، سنعمل مع كلّ أصدقائنا في العالم الحرّ على إنقاذ لبنان”. وأردف عباراته هذه همساً: “أصمدوا وناضِلوا وسنقوم بما يلزَم”. منذُها، وقبل هذه الزيارة بأيام، عبّر البابا فرنسيس بصوتٍ عالٍ عن أنّ “لبنان في خطرٍ داهِم”. نقلُ الخطر إلى السِمة الكيانيّة الوجوديّة شديدُ الوضوح. كان هذا تحوّلاً حاسِماً في تحديد سِمات المشروع الانقلابيّ على الهويّة، والذي يواجههُ الشعب اللبنانيّ أقلّه في كتلته الصامِتة، وقواه المجتمعيّة الحيّة، ومنها تشكّلات ثورة 17 تشرين. الديناميّة الفاتيكانيّة هادئة وصارمة وصامتة. لا تعنيها الانفعالات، ولا الافتعالات، ولا السيناريوهات الافتراضيّة الخبيثة.

البابا فرنسيس أسقط مسار حِلف الأقليّات وتوسُّلِ الحمايات، منذ وثيقة الأخوّة الإنسانيّة مع شيخ الأزهر، وبعدها في اللقاء مع السيّد السيستانيّ. صوَّب على كرامة الإنسان، ودولة المواطنة. أنهى فكرة استغلال الأديان تسييساً والاستثمار في السياسة تدييناً. هكذا واجَهَ الشعبويّة والقوميّة العنصريّة في أوروبا وأميركا. كذا فعل سلفه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني مع الستار الحديدي المُؤدلج.

لبنان بين راهنيّة الشرّ وتاريخيّة القيامة، هذا ما دوَّنه البابا فرنسيس في رسالته إلى رئيس الجمهوريّة. لا حاجة لجيوشٍ وطروحاتٍ معقّدة لنُصرة الحق. إعادة صياغةٍ عميقة لجوهر القضيّة اللبنانيّة هو الأساس. هنا يتلاقى الواقعيّ بالاسكاتولوجيّ في استيعاب لكثافة التحوُّل التاريخيّ. فهل من يَفقَه؟